د. حاتم الجوهري يكتب ديواني الجديد: “نساء الممالك البعيدة
كتب : د. حاتم الجوهري
بعد حوالي ثماني سنوات ونصف من صدور ديواني الأول “الطازجون مهما حدث”(1) الذي صدر نهاية عام 2015م، وبعد القرار القديم بالوقوف على مسافة من المشهد الشعري التسعيني وعدم النشر فيه تمردا على تنميط القصيدة الجديدة وآفاقها شكلا ومضمونا(2)، والمراهنة في الآن نفسه على الزمن والشعر الحقيقي وقدرة الاختيارات المغايرة وآفاقها على الحضور والوجود والأثر، وقتما تخرج إلى النور وتظهر(3)..
يصدر ديواني الجديد “نساء الممالك البعيدة” الذي تأخر أيضا وكان من المفترض أن يصدر قبل “كورونا”، وتأخر أيضا إلى ما بعد معرض القاهرة الدولي للكتاب 2024م بسبب حضوري الذهني والنفسي كاملا في متابعة الحرب على غزة والضفة على أثر عملية طوفان الأقصى.. إنما أصدره الآن رغم استمرار الحرب وطولها إصرارا على الحياة وتأكيدا على أن حياتنا في ظل هذا مقاومة، ولأن بعضه كان يفيض مني وينسكب رغما عني سكبا جزئيا مشوشا، مسببا ارتباكا وحيرة في بعض ما أكتب في المجال العام أحيانا، ومعترضا على طول حبسته في ظلال نفسي وأدراجها ومهددا باستمرار إرسال أشباحه فرادى متسللين في كتاباتي العامة، وتَلبُّسها بما يَحْلو له من هيئات وحالات، إن لم أطلق سراحه جملة وأفك أسره كاملا وحاضرا.
يأتي هذا الديوان ليطرح فضاء مجاورا للذي طرحه ديواني الأول والبيان الشعري الذي صاحب صدوره(4)، ومقاربا راهن الشعر المصري من نافذة مغايرة منذ هيمنة شعر السبعينيات عليه، ثم ظهور قصيدة النثر، ثم اجتماع السبعينيين والتسعينيين ولقاء المشروعين مؤخرا وتمازجهما لحد بعيد.
في حقيقة الأمر لا يمكن قولبة الإنسان أو قولبة المشاعر الإنسانية، وتحويل المشاعر الإنسانية إلى “موضة رائجة” قسرا مع ما سُمي بـ”التيارات الأدبية” الحديثة أو التحديثية، أو قولبتها أيضا في “موضة رائجة” مضادة تخالفها وتستند إلى تصور جامد في تراث ما، أي بخطاب أكثر مباشرة لا يمكن أن يكون هناك شكلا واحدا أو مضمونا واحدا شموليا ونموذجيا للمشاعر الإنسانية، يخترع البعض حوله معاركا متخيلة و”موضات رائجة” كل فترة، بحجة ترك أثر أدبي ما أو التعبير عن الاعتراض على شيء ما..! لتظل قوة الشاعر الحقيقي وقدرته على الإبداع وتماسه مع نبع الشعر الصافي شكلا ومضمونا، رهنا بقدرته على مقاومة مغريات “التنميط الرائجة” في عصره.
فلا يمكن أن يكون الشاعر الحقيقي “مدرسي” أو “نمطي” ينتمي لتيار له سمات أسلوبية ومقاربة محددة سلفا لقضاياه ومواضيعه التي يتناولها، وهذا لا يعني أن الشاعر لا يملك أسلوبا أو لا يملك مقاربة ووجهة نظر للعالم، ولكن يعني أن الشاعر الحقيقي في لحظة معينة قد يجد القسرية في “النمط السائد” والخطاب النقدي الرديف له، ومن ثم عليه أن يختار الحرية والتفرد وأن يكون نفسه بنفسه، بعيدا عن الاعترافات الجماعية الرائجة للأدب التي يتبادلها البعض وفق طبائع علم الاجتماع البشري وسننه.
ورغم أن اختيارات البعض واعترافاته المتبادلة هي بطبيعتها اختيارات وطبائع مثلها مثل غيرها في حقها الوجودي؛ إنما المشكلة حينما يأتي هذا البعض من خلفية أدبية ترتبط في قيمها الثقافية العميقة والغائرة بتصورات سياسية أو فكرية شمولية، ثم كرد فعل لظرفية سياسية ما -أو فكرية أو تاريخية- يختار أن يطرح التمثل الأدبي بالمنطق السياسي ذاته، ساعيا لفرضه كتعويض أو تفريغ مضمر للأثر السياسي أو الفكري العميق الذي يسيطر عليه.. وليس بالمنطق الأدبي للتجاور والتنوع الإنساني.
في هذا الديوان الجديد “نساء الممالك البعيدة”؛ أقدم تصورا لعلاقتي بالآخر/ المرأة يتسق مع تصوري لذاتي وليس مع تصور جيلي والصور النمطية التي تم فرضها عليه بالترهيب أو الترغيب (وفي سياق مشروعي الشعري عامة)، وحقيقة لم أخجل من نفسي أو لم أشوه نفسي وأجبرها قسرا على صورة نمطية للعلاقة بين الرجل والمرأة، لكي أكون ضمن زمرة ما هنا أو هناك، ففي لحظة معينة وفاصلة منذ نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة أخذت قرارا باعتبار الشعر “مشروعي الشخصي” وفضائي الخاص في مواجهة العالم، بعدما كنت أعتبر الشعر “مشروعا عاما” بصفتي أمينا لجماعة الفكر والأدب بجامعة المنصورة في التسعينيات، وعضوا مؤسسا رئيسيا لنادي الأدب بالجامعة في إصداره الثاني (بعد توقفه)، وحراكه العام الواسع والدور العريض الذي قامت به تلك الحركة الطلابية والأدبية في محيطها الثقافي العام وفضائه المتنوع ومستوياته المتعددة.. وهذا التحول في اختياري ومقاربتي بأن يكون الشعر “مشروعي الخاص” بعدما كان “مشروعي العام”، هو الإجابة عن السؤال الذي يلاحقني به البعض: لماذا ابتعدت عن المشهد الشعري بعد كل هذا الزخم والحضور؟ وزهدت في أي اعترافات نقدية أو أدبية..؟ وكيف أسعى لها! ومثلي كان “صاحب طريقة” شعرية ونقدية منذ البدايات الأولى للقصيدة التسعينية، خاض معاركه ضد بواكير الاصطفافات الشعرية النمطية الحدية التي أصبحت الآن –وتلاميذها ومريدوها- مهيمنة برديفها النقدي وشبكة علاقاتها، وأثرها الظاهر، ونفوذها الخفي الناعم.
أما لماذا التحول واعتبرت الشعر والأدب “مشروعا خاصا” بعدما كنت أعتبره “مشروعا عاما” في الحركة الأدبية الطلابية ومحيطها الثقافي؛ فيرجع إلى أن التجربة نفسها أثبتت ذاتية الشعر وتفاوت علاقة المبدعين التي تربطهم به بالقيم العامة للجماعة، وكنت بـ”طبيعتي الشخصية” أربط بين الأدب وسياقه الاجتماعي والثقافي (منذ أن كنت صغيرا أُعد مجلات الحائط في مدرستي الابتدائية وأكتب مقالاتها وأشارك في فريق الإذاعة المدرسية وأوائل الطلبة وفرقة الكشافة ومعظم أنشطتها العامة)، وكنت أقارب الشعر في المجال الأدبي وتمثلاته المختلفة من هذه الزاوية، ولكن حينما أثبتت التجربة ذاتية الدافع للإبداع وهشاشة علاقته الحقيقية بالعام، اخترت أن أختصر الطريق وأحول مشروعي العام مباشرة إلى الثقافة والفكر والفلسفة وحال الذات العربية، وأن يصبح الشعر مشروعي الخاص، وإن ظل الشعر في قلب اهتماماتي الأكاديمية والبحثية رغم ذلك –وربما عبر نفوذه التاريخي داخل بنيتي الروحية- لأترجم الشاعر الإنجليزي وليم بليك في ديوانه “أغنيات البراءة والتجربة” في مشروع المائة كتاب بـ”هيئة قصور الثقافة”، وأقارب المشروع الصهيوني وأفكك جذوره الثقافية من خلال الشعر أيضا، وترجمة مشروعين شعريين للعربية (يتسحاق لاؤور ودافيد أفيدان) وتناولهما في أطروحتيَّ للماجستير والدكتوراة، من خلال الدرس الثقافي بأسلوب ومنهج نقدي مغاير للمنهج الغربي/ البريطاني وفلسفته (إلى جوار عدة دراسات في الشعر والأدب العربي بعضها منشور وبعضها الأكبر غير منشور).
وفي المجال الفلسفي والفكري والثقافي العام؛ قدمت دراستين مركزيتين في فهم الذات المصرية -التي أنا منها وبها- والقيم الثقافية العميقة الحاكمة لها، الأولى تبحث عن فلسفة الحضارة المصرية وعلاقتها بالحياة والثورة عبر التاريخ، والثانية ترصد آليات التدافع السياسي وسيكولوجية العمل العام، وفي الوقت نفسه طورت اهتمامي بالمسألة الصهيونية ودرستها درسا ثقافيا ناقدا في عدة دراسات، ثم طورت مشروع المشترك الثقافي العربي ومجال الدراسات الثقافية العربية المقارنة في عدة فلسفات بديلة للثقافة، وبالتوازي معه أو قبله بقليل طورت دراسات ما بعد المسألة الأوربية وفلسفة “التداول الحضاري” الإنسانية، ومحاولة الخروج من مأزق المركزية الغربية التاريخية بشرقها الماركسي المادي وغربها الهيجلي المثالي، وتمثلهما الجديد مع “الأوراس الجدد” و”الأطالسة” في القرن الحادي والعشرين.. إنما يظل الشعر وحضوره هو مركز القيمة الثقافية الرافعة والحارسة، بقوته غير الملموسة التي تدفع من بعيد وترفد مشروعي العام بالصمود.. وكيف لا يكون الشعر كذلك وهو كان قرينه منذ البداية، والمنارة التي تمنحه الأمل.
إن تصوري لـ”نساء الممالك البعيدة” يأتي من تجربتي الشخصية وطبيعتي التي خُلقت عليها، دون افتعال ومحاولة تنميط لذاتي لتكون هنا أو هناك.. في يوم من الأيام أجريت تجربة على نفسي بعدما امتلكت الأدوات النقدية والمعرفية، وهذه التجربة أجريتها حديثا للغاية ربما منذ ثلاثة أعوم تقريبا، وكانت تجربة للفصل بين السياق الروحي الطبيعي للشاعر وبين السياق المعرفي المنضبط للباحث، ووجدت منهجا وأداة فعالة لحل الإشكالية، تمثل في العودة زمنيا إلى مرحلة الطفولة والصبا والاختيارات الفطرية المبكرة للغاية، ورصد مجموعة الاختيارات والأفلام والأغاني والمشاعر والقصص والقراءات التي كنت أرتبط بها وأبحث عنها دوما، واكتشفت بكل وضوح أنها تميل إلى وجهة بعينها تتكرر باستمرار.. وكانت النتيجة جذرية بالنسبة لي.
من ثم في “نساء الممالك البعيدة”؛ أكتب لا لأنتمي لمدرسة ما أو لأعادي مدرسة ما، ولا لأؤسس لمدرسة أو منحنى شعري جديد (كما كان يقول الشاعر إيهاب خليفة صديقي العزيز رحمه الله عند قراءته المسودة الأولى لهذا الديوان قبل وفاته)، ولا لأطرح لغة جديدة (كما كان يصف لغة شعري أحد نقاد المنصورة القدامى في التسعينيات، الذي هاجر منذ فترة طويلة إلى أمريكا عن القصائد التي نُشرت في ديواني الأول)، ولا لأكون نموذجا لقصيدة مفارقة كما كان يصف بعض زملاء التسعينيات قصيدتي في موسيقاها الخفية، وسبكها اللغوي المصور (كان هشام علوان الصديق القديم المبدع والإعلامي يقول إن قصيدتي أفضل ما تصمد روحه عند الترجمة، بسبب عدم اتكائها على المستوى اللغوي الأولي فقط ولبنيتها التصويرية ودراما الشعر بها بالدرجة الأولى).
في لب المسألة؛ أكتب الشعر من مقاربة طورتها ليكون باختصار تعبيرا عني وممزوجا بذاتي، وباختياراتي التي تتسق معها ومع مجمل تصوراتها الإنسانية والوجودية أيا كانت، وأطرحه في المجال العام صديقا ومحطة أُلفة ودفء لمن يبحثون عن الحرية وأبوابها ممن يشبهونني، فأنا نفسي كنت أتحرر ولا أشعر بالوحدة وقيد التردد الاجتماعي الخفي وأنطلق؛ حينما أجد “شعرا” يشبهني ويجعلني أؤكد على اختياراتي وأثق فيها وأختبر مداياتها، في ظل فكرة “التنميط” التي تسود معظم مساحات الحياة الاجتماعية التي تحيط بالإنسان، وليس الأدب ومدارسه فقط.
وأصبحت لي اختياراتي الخاصة في عالم شعري نسجته من خيالي يجمع علاقتي بالمرأة/ الآخر، عالم شعري له أفق متنوع حكمته ذائقة نَحتَتْ ملامحه بنفسها، وقاموس أقرب للعالمية الجغرافية وروحها ينتقي مفرداته خفيفا مرتحلا بين بيئات متعددة، قاموس يجمع في جعبته: الحصون، والبحر، والمروج، والصحراء، والسماوات، والأزهار، والطيور، والفينق، والرماح، والدروع، والحروب، والقتال،… لكن يبقى المشترك بينهم دوما روح الذات التي تصارع من أجل نفسها وحلمها، تقاوم ولا تهتز رغم الصعاب والتكسرات والشدائد والمحن طبع الحياة الدنيا وديدنها.
لذا فقصائد “نساء الممالك البعيدة” ترى المرأة كما أراها، تختبر وجودها معها ببراءة وتكتسب المعرفة بها بالتجربة دون نمطية، ثم تطرح اختياراتها في علاقتها بها وفق طبيعة هذه الذات الحاضرة في الديوان، هذه الذات ربما تستحضر المرأة أحيانا في خضم معاركها الكبرى مع الحياة، وأحيانا تلتقي بها صدفة عابرة تخطف الوجود خطفا، وأحيانا تترك قبلة واحدة على يد امرأة تختصر الجغرافيا والمسافات وأثر التاريخ المغاير والمتباعد، وأحيانا تتأمل متشبعة بروح الحكمة حكاية ما مرت وتركت أمثولة بارزة، وأحيانا تغني معها أو لها أو بها، وأحيانا تبتعد الذات الحاضرة في الديوان لتصف من بعيد وجودها وتنظر في دوافعه ومحركاته وتعطي الإشارات والملامح..، وأحيانا كذا، وكذا، وكذا…
يأتي الديوان في 119 صفحة و 35 قصيدة تتراوح في طولها بين القصيرة، ومتوسطة الطول، والطويلة، وكانت عناوين القصائد كالتالي: (فرق التوقيت بين ما كان – سليل النهر – عندما تجيئيُ – أيأتيني.. أم أنا الذي آتيه! – شقتْ قيمصهُ – ساحر التعاويذ البيضاء – ما الحب الحقيقي؟ – تحول الفراشات – قلب الشاطر حسن – أظافر كبريائك – قلبك وحربك – إذا مررتِ بقلبه – الجميلة في وحدتها – المسافة بين عالمين – رب الفينق – طعنة بيضاء واضحة – لا أمَلُّ ولا أضِلُّ – الملاك الحارس – هناك دائما في قلبكِ – ستعرف آثاركَ – غريبة في بلاد الأساطير – التي لم تأت بعد – غنائمكِ المحترقة – مَعْلم بحري – أميرة الثلوج – الرومانتيكي الثوري الأول – صغيرة ما كنتِ أبدا – ألف ليلة وليلة – في العشق والسماء – وصرت أحب الغريبات – أمية – في زمن غابر – قيامة – غجرية – أرض الرياحين والرماح).
وسوف أضع مقتطفات أو مقاطعا قصيرة مجتزأة من بعض القصائد داخل الديوان، لتعطي لمحة عامة عن جدل الذات الحاضرة في الديوان وتدافعها مع الآخر/ المرأة في معظم حالاتهما، ولمحة عن الروح الشعرية في الديوان:
—-
من قصيدة “قلبك وحربك”
—-
إذ حربك الأولى
أعلنتها دون هوادة على نفسكَ
حتى وَحَّدْتَ المملكةَ جنوبكَ مع شمالكَ
وضَبطتْ ملائكتُكَ شياطينَكَ في الصف
والتحمتْ حدود قلبك راهبة بتولاً
تلتصق بأسوار حصون البلاد الأمامية ،
ساعتها نصف نصرك
أن تمنح قلبك
لامرأة من طين رُوحك
تنفخ فيك إذا ضعفت رياحك
تحمل السلاح على السور الأمامي نفسه
—-
من قصيدة “عندما تجيئُ”
—-
من أجلها..
قولوا لجميع المخلوقات فى هذا المكان
من مدينتها إلى مدينتي
أن تستحم فى ماء النيل وتتأنق
وللأشجار أن تحاذي في وقفتها
وتصلح من هندام أغصانها وتعتدلُ
فالأقاويل تهمس بها الغيمات
وتتبادلها أسراب الحمائم سراً
بأن ريح حبيبتي
قادمة
في الطريق.
—-
من قصيدة “التي لم تأت بعد”
—-
الجميلة
التي أبصرت ما لم يبصرنَ
وثقت في صبر بحار عجوز
لأبعد ما يكون،
آمنَّت أن صفحات البحر دونت أيامه بملحها
ومرت على ذكرياته بكسر الأصداف
وبعض غيم الشتاء الخشن،
وأدركت أن له حكاية تناقلها البحارة القدامى
عن أسماك قرش سعت
لقضم بعض آماله
وأعاد رتق الشراع مرات ومرات
—–
من قصيدة “ما الحب الحقيقي ؟”
——
هو ليس كل ما يتحدثون عنه
لا الرومانتيكيون
ولا الفوضويون
هو لحظة تكفي لعمر بأكمله ،
ربما مع الفتاة التي وجهها
هو مقطوعة موسيقية من بكين
ربما مع القطة الجرمانية البرية من ميونخ
أو مع ساحرة إفريقية كقصة حالمة
مِنْ سيشل الجنة العجوز
أو مع شاعرة أمريكية من أصل عربي
تناديك لعشائها في قارة الهنود الحمر
أو ربما..
—-
من قصيدة “فرق التوقيت بين ما كان”
—-
تبين الآن
تحبه كانت
كوميض خاطف ملأ سماءها بغتة
وهي القمر تحرس أسراباً من السماوات والفراديس،
فطاردته في أرجاء مدينتها
بعربة فارهة تجر قطيعا من النفوذ
وأسقطت كل دروعِها أمامه،
لكنها لم تدركْ بدورها
حين أغمضتْ شفتاهُ عن كل شيء
وتفتحت بِسَكِينَة ومهل على يدها
أن تلك القُبلة
لم يمنحها لأحد قبلها
وأنها كل ما يمكن أن يسقطَه من دروع أمامها
—-
من قصيدة “الرومانتيكي الثوري الأول”
—-
وصار هو
الرومانتيكي الثوري الأول
من قبله لم يوجد ذلك الشيء
ومن بعده لا يعرف أحد
أسيأتي من يخلفه أم لا..!
حار في أمره كثيرون
كيف لقلب عصفور
أن يثور بروح صقر !
وكيف لقلب صقر
أن يحب بروح عصفور!
تلك كانت آيته
بين العالمين
—-
من قصيدة “الجميلة في وحدتها”
—-
وفى التفاتة
قابلته الجميلة في وحدتها
والحزن يتوج رأسها
كمقصلة لامعة،
وكالمحاربين عابري السبيل
لمح فيها ما كان قد يكون
ولأنه يملك قلباً بوسع ترس
ومدينة وحارس للربيع
نظر للغجرية النمرة فى عالمها
ومنحها ابتسامة دافئة
كسَكِيْنَة مرفأ لمركب مثخن بالجراح والترحال
—-
من قصيدة “صغيرة ما كنتِ أبدا”
—-
أخبروها أنها فاقت كل النساء
وأن قلبها الصغير ما كذب
أخبروها أن العالم قيدني
وأنها كانت عندي تساوي عالمين
أخبروها فقط
أن قلبها لم يكذب
وأنني أحببتها دفعة واحدة
وما ترددتُ
أخبروها فقط
أن المسافات بيننا كانت مستحيلة
لكنها تفوقت عليهن جميعا
وأنني أحببتها دفعة واحدة
وما ترددت أبدا
—–
من قصيدة “وصرت أحب الغريبات”
—–
للعربية سَمتها
تمر ولا تمر ،
إذا مرت بقلبها من حَيِّكَ
وأعجبتْ بالشموخ والبهرج دون فهم
لا تمنحك مساحة للقرار
إما أن تعشق أو تكون جلادا ،
فتمر من حيك ولا تمر
كأنها الحرب
تمارس عليك طقوس انسحابها
وحقولها المحروقة
—-
من قصيدة “ساحر التعاويذ البيضاء”
——
ألم أخبركِ أنني ساحر
يلقي تعاويذه البيضاء
فيطاوعه صخر الجبل.. يلين،
وحينا أمرُّ
بري الطباع بقلبي الحر لا أكترث
فإذ تعاويذي البيضاء تعمل فجأة
ويصير مروري فتنة للجميلات على عروشهن
تلتبسُ عليهن الأشياء
يطالبن بي
وأنا أول الزاهدين فيهن وآخرهم
أتعلمين لماذا حبيبتي؟
لأنه ليس لي في العروش غاية
فعرشي بعيدٌ.. بعيدٌ وأبيض
هناك في أقاصي الجبال
—-
من قصيدة “هناك دائماً في قلبكِ”
—-
هل مازال شعاع بصائرك يسقط
على ضفاف النبع !
تمتد يداك بالحلوى وتطعم صغار الأسماك فيه
تشع عيناكِ بالزيت
وعلى صدرك تعيش قطعان الزيتون البري !
هل ما زلت أنتِ .. أنت !
وداعاً
لقد أطْفأتْ أنوارك
وحان موعد الإغلاق
ولتسلمى على بُنِّيِّ عينيك وعسليهما
وقبلي لي وجهك النائم بخفة
ذاك الذي كانت تندفع الدماء فيه نافرة
كطبقة مخملية من الورد الأحمر والبرتقالي
تغزو ألوان بشرتك لحظات اللقاء
—-
من قصيدة “أميرة الثلوج”
—-
كوني مستقيمة.. وإلا فالصقيع أقرب
ليس لك عندي الآن قُبلة
ناديتِ وجئتُ وجنتيك من قبل مرتين
وكتبت لكِ في الثالثة أغنية رغم تيهك
ثم مسحتها لأهز كتفيك للصباح
لتذوقي طعم الحلو والمر في آنٍ لتنتبهي،
أميرة الثلوج
لكِ أن تصدقي قلبك
بأن أميرك هو المحارب لا ريب
بأن ريحه هي الريح ولا غير
—-
من قصيدة “تحول الفَرَاشات”
—-
إنه في موسم الغدر والظلام
يكفي لفراشة متأنقة على عرشها
مجرد
خيانة قلب عاشق واحد
لتنكمش
وتضمحل الأجنحة
وتعود كدودة تسعى
تأكل من حشائش الأرض والحجارة
ولا تعرف من ذاكرتها الأخرى في السماء شيئاً
هي إبليس
هي ذلك الساقط الرجيم من عليين
—-
من قصيدة “مَعْلَمٌ بحري”
—-
وها شباكها قد جفت
وتشققت الأيام في عروقها وذبلت
وتصلبت هي في مكانها سنيناً
وصارت معلماً بحرياً
كمنارة ملعونة
تنبه البحارة والسفن
هنا أرض النسيان فلا تحطوا
وكأن الله قد سخطها حجارة
مسخاً للعابرين
وعظة
—-
من قصيدة “في زمن غابر”
—-
دون خوان دى ماركو
الإصدار الثانى
كان الأول يغوى النساء
ويصطحب أشياءهن معه خارجا
بزهوة جامع العسل ،
وصاحبنا الثانى
كانت تطارده عيونهن ناعسات
وربما غاويات،
فيكتفي بنظرة واحدة ساحرة
لمن يختار
كأنه يجمع العيون ،
ثم يللم عباءته
ويتأكدُ من سيفه فى وضع المبارزة
ويرحل.
—-
من قصيدة “المسافة بين عالمين”
—-
تعلم بأنك منذور للحرب والبلاد
تبحث عن طيفك في مخطوطات الجبال
أخبروها عنك فى نبوءة قديمة تَتَتَبَّعُ الأثر
ذلك اختيارها ولو بالغيب..
تحمل أوصافك في خريطة صدرها
تشاهدك حين تفتح طالع قلبها وحيدة
ومتى تغمض روحها عن صخب الدنيا
ولتكن كما أنت
كأن شيئا لم يكن
منْ تسكنه الأساطير
ونساء الممالك البعيدة
تحرس حدوده بالأنهار
وتحاصر ذكرياته
بالأغنيات والنجوم
—-
من قصيدة “سليل النهر”
—-
ولا تقسُ على نفسك
فأنت ابن الحداد إذا بَرُدَتْ يداه
وأنت ابن الغنَّام إن ظنوا أنك آمنتَ للذئب
تحمل العروش وعمود الخيمة
وعروسك لا تمل الانتظار ،
لا تسمح لنبالهم قصيرة المدى
بأن يعكسوا ظلها فى مرايا واهية
تكمل المسافة وتصيب شموخك ،
فأنت الأمل وحامل النار
أنت سليل النهر وحارس المركب
أحبتك العصافير والجنيات
فلا تغوينك الظلال والبريق الناعم ،
أنت ولد الخشن والحجر والحنظل
وترجَّل لا تضعف