” هالة ” بقلم الدكتور سليمان عوض
تردد فى السماح لها بمقابلته ، حين أخبره الممرض أن سيدة بالباب تريد مقابلته .
تأملها وهو يكاد أن لا يصدق أنها هى ، لا بد انها هى ، نفس الملامح وكأن الأعوام الثلاثون لم تمر منذ أن تركت العمل فى العيادة لديه .
تكورت الذكريات سريعا فى ذاكرته.
كانت مازالت طالبة فى السنة النهائية من دبلوم المدارس التجارية حين جاءت تطلب عملا بالعيادة ، كانت برغم الشقاء الذى يبدو على ملابسها وإهمال شعرها ، جميلة ملامحها ، ساحرة ابتسامتها ، خفيفة حركتها ، وكأنها فراشة لا تكاد أن تستقر.
– ممكن تيجى من بكرة لو تحبى !
– بس أنا فى الدبلوم والامتحان الأسبوع الجاى !
– يا بنتى أنا النهارده محتاج حد , معرفش لما تخلصى امتحان ، هكون محتاج ولا هيكون حد اشتغل !
-خلاص يا دكتور أنا هشتغل من اليوم !
لم يكن قد أكمل حديثه حتى بدأت ترتيب ما تفرق أمامه ، وتنظيف ما تسخ ، غير ناظرة اليه بينما كانت نظراته تتابعها بدهشة وانبهار .
-انت يابنتى !طيب مش تقولى لى اسمك ايه ؟
وهى منشغلة بما بدأت :
-اسمى هالة .
-طيب يا هالة تعالى احكيلى عرفينى بنفسك!
كانت حكاياها عن والدها العاطل الذى لايجيد غير الضرب والإهانة ، وعن أمها التى تعمل بالبيوت وبالأسواق لقوت يومهم بعد أن يقتطع أبوها منه ثمن الكيف الذى يعكف عليه ليلا ونهارا.
-بس يابنتى العيادة بتتأخر وانت من الأرياف !
– لو سمحتلى أبات فى العيادة ؟ على الأقل أرتاح من إهانة وقسوة أبى !
بعد تردد وافقها على المبيت .
كان تردد المرضى قد زاد ، كما زاد انبهاره بها وبما بثت فى العيادة من روح مرحة خفيفة , حتى أنه لاحظ أن كثير من المرضى أصبح يتردد عليه بلا مرض , حتى أن شجار المترددين لسبق الدخول أصبح تلكؤا وكل يتمنى أن يسبقه غيره .
برغم مشقة يومها كانت تصحو مبكرا حيث الامتحانات وتعود لمشقة يوم حتى بعد منتصف الليل .
تذكر حين فاجأته :
-ممكن أساعدك فى العمليات وأغنيك عن دكتور مساعد؟
رد عليها مبتسما :
– من اليوم هعلمك تساعدينى .
لم تمر غير أشهر قليلة حتى أجادت ما تفعل , بل لعلها كانت أفضل كثيرا من أطباء كان يستدعيهم لمساعدته .
– يا هالة انت بنت ممتازة يا بخت اللى هتكونى من نصيبه!
حينها لمعت عيناها وهى تنظر اليه نظرة لم يستطع فهمها فانصرف آخذا مقعده وهو يقول :
– دخلى يا هالة اللى عليه الدور !
كانت تهتم بملبسه ومأكله وأوقات راحته ، كما كانت تشغل تفكيره ، هيأتها ، ضحكتها ، خفة حركتها ، رقة كلماتها ، حتى أنه أصبح يتعجل الذهاب للعيادة .
كان يبدو عليه الضيق إن أطال أحدهم معها حديثا. أو تردد أحد الشبان كثيرا عليه وقد كانوا كثرا .
حين أخبرته بأن أحدهم يريدها زوجة تعجل فى الرد وهو يقول :
-إقبلى دا عريس كويس !
برغم انقباضة قلبه وكأنه يفارق روحه , وكأنه ينهى فى نفسه صراعا بين تعلقه ، وخشيته من أن يلومه الآخرون ,كيف لطبيب ناجح أن يكون زوجا لفتاة متدنية التعليم.
لم يكن يصدق أنه يراها بعد الأعوام الثلاثين ، وهى على ما هى من جمال وخفة ورشاقة ومرح وكأنها لم تغادر.
أفاق من شروده حين رآها وهو يحاول أن يعمل حدسه ، لماذا جاءته بعد كل هذه السنوات ؟لابد أنها تحتاج مالا وهو يعلم كم كانت عفيفة , وقال فى نفسه لها ما تطلب وزيادة .
بادرها بالسؤال بعد أن طمأنها بحسن استقباله :
– خير يا هالة تؤمرى اللى انت تطلبيه؟
– خير يا دكتور ! مش عارفة أبدأ إزاى بس ياريت متكسفنيش !
-عمرى ما هكسفك يا هالة اللى انت عاوزاه مهما كان!
– أنا جايه أطلب بنتك لإبنى خالد هو مدرس فى طب المنصورة .
أصابه شرود حتى أنه لم يعد يسمع ما كانت تصف به خالد وهو يتمِنى القبول .
-بس يا هالة لابد آخد رأى البنت !
-البنت موافقة بس انت توافق تجوز بنتك من ابن هاله .