محمد صلاح الدين يكتب ” حسين بيكار ” وإبداع أحيى إبداعًا
اليد المبدعة الأولى لها شرف الإتيان بالشيء من العدم، ولكن الإبداع الثاني يكون منافسة قوية حتمًا؛ لا يبلغ فيها إلا من أجاد عن جدارة ورأى بعين الخبير؛ لأنه ابتكار فني بعد ابتكار بكر، والتقليد فيه للأول رذيلة لا تمكن، وهذا كان ما ظهر في كشف ثقافي قدمه (غاليري لمسات) حين عرض لريشة المصري المبدع (حسين بيكار 1913- 2002) في فيلم تسجيلي بعنوان “العجيبة الثامنة” جاء إعجازًا فنيًّا ثانيًا خرج من رحم الإعجاز الأول؛ ليكون شاهد صدق على أن اليد المصرية وإن – وللأسف – اعتراها وهن الخمول والتكاسل بيد أن الروح لم تفارق الجسد بعد، وهذا ما صنعه الفنان العلم حسين بيكار.
بداية من المدرك أن “معبد أبي سنبل” خلق إنساني ومعجزة حفرتها يد المصري في الجبل الأصم، ولولا إجحاف الزمان لصار هذا المعبد عجيبة العالم الثامنة، إلا أن بعثه الآخر من تحت رمال السنين ما كان إلا بعد تقييد السبع المعروفات، ومن ثم دُعي هذا المعبد بـ: “العجيبة الثامنة”؛ من هول بنائه ودقيق هندسته وانضباط زواياه إذ الشمس بضبط لا يعلم كنهه إلا الكهان المهندسون تصيب محور المعبد في قدس الأقداس؛ حيث الملك محاط بالآلهة في ميقاتين محددين فقط لهما ارتباط وثيق بذات الملك، وأضف لذلك عظمة منحوتات النعبد ونقوشه المقدسة، وما صاغت أيدي الكهان على جدرانه من فيوضات الحكمة الأولى التي جرت على صفحة النيل (حعبي) المقدس، وفي هذا المعبد وفي العصر الحديث وقعت معجزة إنسانية أخرى تعد من أعظم المشاريع الثقافية في تاريخ القرن العشرين، والتي وبحق تصورها قبل أن تقع حالة من الجنون؛ إذ بعد مشروع السد العالي غمرت مياه النيل المعبد، فقامت منظمة اليونسكو بإنقاذه وفكه، ثم تعليته عن وضعه بحالة من الإبداع هي الجنون بحق.
أمام جلال الماضي الذي حطم الدهر يد بناته، خرجت يد أخرى في خضم ديمومة مقاومة الإنسان للعدم، وكانت يد الفنان المصري حسين بيكار، والذي أراد أن يسمع العالم بنبض أنامله وبريشتها أنه أعاد اكتشاف معبد أبي سنبل “العجيبة الثامنة”، إذ كان أن في ستينيات القرن العشرين ترهب بيكار لثلاثة أعوام في صعيد مصر تتصل روحه بروح الأجداد؛ ففاضت على ريشته لوحات للحضارة المصرية القديمة، فكأنما هو عالم مصريات كشف خبيئة معبد أبي سنبل الأثري، ولما أتم لوحاته أعدها في مادة فيلمية، وارتحل إلى ألمانيا ليشارك بالفيلم في مهرجان برلين، وبالفعل لقي حفاوة ونال التكريم على إبداعه الفني، إلا أن لعنة الإهمال المصري أدت لفقد هذا الشريط السينمائي بما حوى من إبداعات بيكار، ومع مُضي الزمن وبالبحث تبين أن نسخة هذا الفيلم موجودة في نيوزيلندة، وبالفعل تم التراسل بين المؤسسات الثقافية المصرية والنيوزيلندية، وحضرت النسخة وتم عرضها في مهرجان الإسماعيلية، إلا أنها عاودت الاختفاء مرة أخرى بفعل يد مجهولة، ولكن الباحثة المتفردة الدكتورة/ إيناس الهندي قررت أن تحفر باسمها كشفًا أثريًّا تقدم فيه للعالم الخبيئة الفنية المفقودة للفنان الكبير حسين بيكار، وبالفعل تعاونت مع المخرج الأستاذ ناجي مأمون الشناوي، وتمت عملية إعادة تأهيل وإعداد لرسومات بيكار؛ ليخرج لنا الفيلم الوثائقي “العجيبة الثامنة” للمخرج ناجي مأمون الشناوي والدكتورة إيناس الهندي التي جمعت لوحات بيكار تلك في كتاب عنوانه “خبيئة بيكار”؛ صانعة كشفًا لإبداع بيكار الذي اختفى فصار خبيئة مصرية طمرتها رمال الإهمال إلا أن الباحثة جلتها، فعادت براقة أمام العيون.
وحول فيلم “العجيبة الثامنة” الذي عرضه “غاليري لمسات”؛ فالفيلم أتى عرضًا متتاليًا للوحات بيكار المرتبطة بحضارة قدماء المصريين العظام، والتي كما ذكرت آنفًا أعطاها ثلاثة أعوام من عمره، ويتخلل العرض المتتابع للوحات خلال الفيلم عزف موسيقي لحسين بيكار ذاته مع غناء له بصوت ملائكي جميل، وقد استعرض الفيلم كيف سبحت روح الفنان بيكار آلاف السنين، وتخيل في رسوماته كيف كان منظر المدينة المقدسة (طيبة)، وكيف كان بهاء ملكها فرسمه، ثم كيف كان قصر الملك وصور لنا الملك والملكة وهما جالسان والكهان المهندسون يعرضون عليهما فكرة مشروع بناء المعبد، ورسم لوحات آية في الجلال تظهر اختيار المكان وإعداده، وقد تجلى حلول الروح الفنية وعبورها أفق الزمن، عندما رسم أعمال البناء والنحت في قلب الجبل، وكأنه يحيا الزمن وكيف تم البناء، وحضر الكهان المرتلون في مواكب تبخير المعبد وتزيينه، ثم افتتاحه على يد الملك الفرعون والملكة، واختُتم الفيلم بما صورته أنامل بيكار بريشته من عسف الزمان بالمعبد، بعد أن مضت أيام مجده وصار تحت أكوام الرمال، عندما عثروا عليه وبدأت فكرة إعادته للحياة.
هكذا أتى الفيلم التسجيلي عارضًا لوحات حسين بيكار التي أعاد فيها للعالم اكتشاف معبد أبي سنبل، بطريقة وكأنه صوفي صفت روحه وشفت حتى عبر الزمان؛ ليرى أشياء منها ما أبادته يد الزمن، ومنها ما بقي هَرِمًا إلى يومنا هذا؛ فكان هذا الفيلم التسجيلي “العجيبة الثامنة” عملاً تضافرت فيه جهود كل من الباحثة الدكتورة إيناس الهندي، والتي جعلت من عمل حسين بيكار الضائع خبيئة مصرية كخبيئة الدير البحري مثلاً، ثم أعادت اكتشافها مع جهد عملي من المخرج ناجي مأمون الشناوي، وقد حضر العرض في “غاليري لمسات” ليكتمل التجلي الثقافي – الدكتور حازم فتح الله أستاذ ورئيس قسم الغرافيك بكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، والذي أدلى بدلوه فروى الحضور ثقافة؛ حيث استعرض جماليات بيكار، وكيف انطلق بلوحاته عن حضارة قدماء المصريين، وصهرها فيلمًا حمله إلى مهرجان برلين عارضًا إياه، كما حكى بأسلوبه الجذاب طرائف نادرة من سجل حياة حسين بيكار.
إن نظرة ناقدة للفيلم المعروض – والذي كان مزودًا بكتاب “خبيئة بيكار” – تؤكد أن أمام أعيننا فيلمًا تسجيليًّا يرسخ لحلقة من الفن والحضارة يجب أن يعيها أبناء أمتنا؛ فالموسيقى التصويرية للفيلم عزف لحسين بيكار وغناء له بصوته، والمادة لوحاته بتتابع زمني يسير بدورة الزمن على “معبد أبي سنبل” في امتزاج فني بريشة حسين بيكار، والذي يتسم إبداعه بالاتجاه الطبيعي البسيط عبر صوفية عاشقة للحرية تسبح في الأزمنة، وكل هذا أعطانا فيلمًا تسجيليًّا عرفنا منه عظمة حسين بيكار صاحب الخبيئة الأثرية الحديثة، والذي طمح في الكشف عن الماضي فصار بعمله كشفًا، وحاول إحياء إبداع القدماء فصار إبداعًا موازيًا لا يقل قيمة عن عما حفرته أيدي أجداده في الصخر الأصم.
بقلم : محمد صلاح الدين