محمد صلاح الدين يكتب “بين المسرح النقدي وجبرية الخلق ” قراءة لمسرحية ” نساء شكسبير “
بقلم/ محمد صلاح الدين مأمون
إبداع الإنسان ومضة نور قوية يعبر فيها عما انطبع بنفسه من هذا العالم، والكلمة كانت فجر الإبداع، ولو بصوت الصرخة ألمًا أو رفضًا؛ ولأن العقل إمام الإنسان تولدت حتمية أن ينقد الإنسان ما يعرض له؛ ليميز ما كان إبداعًا مما هو ليس بشيء، وليتذوق بلاغة الكلمات وأثرها الجميل .. وبنشوء النقد واستوائه علمًا فتيًّا؛ تطورت عنه دراسة أرقى تعرض لبلاغة الناقد وإبداعه في نقده. أما ما جرى على مسرح الطليعة بقاعة زكي طليمات في عرض “نساء شكسبير” المشارك في مهرجان المسرح التجريبي – فهو قفزة إبداعية خلاقة؛ فحين يتمسرح النقد وبنقلب السحر على الساحر؛ تتجلى قمة الإبداع بما ينم عن ذكاء المؤلف سامح عثمان؛ فالمعتاد أن تكون الشخصيات على خشبة المسرح ويحركها المتفرد “وليم شكسبير” بأنامله الفكرية، ولكن مؤلف العرض أحضر “شكسبير” وجعل شخصياته النسائية تجرجره وتحاكمه وتنقده نقدًا كسلخ الشاة، متعدد المستويات وصار المؤلف القدير حبيس خشبة مسرحه يدافع عن نفسه.
إن مسرحية “نساء شكسبير” نقد ممسرح تجاه “وليم شكسبير”، وكيف كان يرى المرأة؛ حيث جاء الكاتب/ سامح عثمان بــ “شكسبير” في محاكمة له أمام نسائه – بطلات مسرحياته – نقدًا وتحليلاً تكلمت فيه نساء شكسبير سابرات لأغوره محللات لفكره، عبر أشهر مسرحياته (هاملت – مكبث – روميو وجوليت – كليوبطرة وأنطونيو – حلم ليلة صيف – عطيل) وأثارت كل واحدة منهن تساؤلات، أو بالأحرى اتهامات تجاه الأديب “وليم شكسبير”؛ منها ما جاء مشتركًا على كل المسرحيات مجدولاً في حبل واحد، ومنها ما كان مختصًّا بمسرحية عن أخرى. أما ما كان التساؤل فيه مشتركًا، فلماذا حط شكسبير في أعماله من قدر المرأة؟ ولماذا صاغ لبطلاته نهايات دموية أو مأساوية؟ هل كان “وليم شكسبير” ذكوريًّا معاديًا للمرأة؟ هل كان واقعًا تحت تأثير ثقافة الكنيسة في عصره التي طمست روح المرأة وجمال جسدها، وكانت تدعو لأن المرأة شر مطلق وجسدها مأوى للشيطان.
وعلى الضفة الأخرى هناك أسئلة اختصت بكل عمل مسرحي من تلك الأعمال آنفة الذكر؛ إذ تجلى المؤلف/ سامح عثمان حين صاغ تلك التساؤلات في حوارات قوية بعد، بين البطلة والمؤلف “وليم شكسبير” وذلك بعد عرض موجز يلخص للمشاهد فكرة العمل، والتساؤلات والاتهامات كانت كالتالي:
– في مسرحية “هاملت” حيث الأم، ولماذا صورها “شكسبير” مغتلمة أرادت مضاجعة أخي زوجها الملك فقتلت الملك سمًّا؟ ولماذا صاغ حبكة العمل على شبح الملك القتيل – الذي ظهر لهاملت – في توجيه الاتهام للملكة؟ وأنها – أي الملكة – ساقت ابنها لحتفه ثم انتحرت؟ ولكن تدافع الملكة عن احتقار أنوثتها ورغبتها الجسدية، وكيف تُرمى بالخطيئة والشاهد مجرد شبح الملك؟! أهذا شاهد يكفي للاتهام؟! ولماذا لا تكون تزوجت عم هاملت حرصًا على صيانة عرشها؛ لكون المملكة حملاً ثقيلاً بعد موت الملك دون جناية منها؟!
– أما في مسرحية “مكبث” فلماذا جعل “شكسبير” المرأة محور الشر بداية، في صورة الساحرات الثلاثة اللاتي بشرن “مكبث” بشارة الشر بأنه سيصير ملك أسكتلندة، ثم جعل من زوجته جسدًا شهوانيًّا يحرك الفكرة في رأسه؛ حتى قتل ملك أسكتلندة الأصلي (دانكن)، وفي النهاية تنتحر الزوجة؟ فلماذا جسد الطمع والشهوة والنهاية الدموية في المرأة؟! لماذا اختار لها هذا؟
– وعند مسرحية “روميو وجوليت” رغم أن بطلته “جوليت” وديعة طيبة، ولكنه لم يتركها تهنأ بوداعتها، وإنما صاغ حياتها مؤلمة؛ حيث أحبت “روميو” ابن أعداء أسرتها، ليصير نزاع ومشاكل، وختم لها بالموت دون أن تفرح بحبها. فلماذا جنى عليها بكل هذه الآلام؟!
– وبالانتقال لعمله ذي البعد التاريخي “كليوبطرة وأنطونيو”؛ فقد كان التساؤل لماذا جعل من بطلته “كليوبطرة” عاهرة تجلس على العرش تتاجر بجسدها مرة مع “يوليوس قيصر” ثم تقامر بجسدها مرة أخرى مع “مارك أنطونيو” وتخسر ثم تنتحر ميتة مؤلمة بسم الأفعى الربة المقدسة؟ لماذا عادى المرأة هكذا، وصورها نفعية مغتلمة شهوانية لحد فائق وختم لها هكذا؟ لماذا لم يصورها جميلة صانت عرشها تعتز بسحرها الفتان، ثم انتحرت حتى لا تذل؟ هكذا دافعت “كليوبطرة” عن نفسها.
– أما في عمله “حلم ليلة صيف” فقد رأت البطلة وهي ملكة الجن “تيتانيا” أن “شكسبير” أهان المرأة إهانة بالغة؛ حين جعلها تحب حمارًا أو إنسانًا برأس حمار، فلماذا هذه السخرية وهذا الامتهان للمرأة في هذا العمل؟
– وختامًا في مسرحية “عطيل” رسم “شكسبير” لبطلته “ديدمونة” خطًّا مأساويًّا مع حبيبها وزوجها “عطيل”؛ حيث اتهمها بالخيانة ظلمًا، بعد وشاية كاذبة ثم قتلها، فلماذا كل هذا؟ ولما هدف لتصوير “عطيل” المسلم الديانة المغربي الأصول بهذه الهمجية؟
حقًّا لقد أبدع الكاتب في تقديم نص مسرحي حوى اتهامات مباشرة تجاه “وليم شكسبير”، وأجاد خلق حوار بين الشخصيات، مثلت عقدة الصراع فيه ردة فعل الأنثى تجاه صورها في تلك الأعمال الأدبية، إلا أن تصاعد الأزمة الدرامية في الحوار المسرحي، جعل “شكسبير” يدافع عن نفسه بأن هذه طبيعة المأساة المسرحية (التراجيديا)؛ وقد علل مثلاً بأنه في “روميو وجوليت” كانت نهاية قصة الحب المأساوية سر عظمة العمل؛ إذ قصص الحب العادية لا تدخل نطاق الدراما، وأيضًا علل في “كليوبطرة وأنطونيو” بأن كتب التاريخ هكذا حكت، وفي “هاملت” برر اعتماده على شبح الملك القتيل كدليل إدانة للملكة، بأن هذا جائز في العمل الأدبي، ودافع عن نفسه ودافع.
واحتدم الصراع النقدي على خشبة المسرح، حتى حلت النقطة الحاسمة في جبرية الخلق وهي نقطة تحسب للكاتب وقفزة فلسفية؛ إذ “وليم شكسبير” شهر أمام بطلاته سلاح الجبر الإلهي أنه من خلقهن وكتبهن وصورهن ولا اعتراض لهن، وكل آرائهن لن تفيد فهو من وهبهن الحياة بسن قلمه، وبذلك صعَّد كاتب العمل الحوار لقضية فلسفية قديمة؛ وهي الجبر والاختيار وانتصر للجبر، حيث القوي الصانع يصنع بالضعيف المصنوع ما يتراءى له أيًّا كان عدلاً أو ظلمًا، وذلك لما أمر “شكسبير” نساءه بالخضوع والعودة طاعة وإذعانًا لصفحات كتبه بلا أي حرية في الاختيار أو الاعتراض، ولتحمل كل واحدة منهن القدر الذي رسمه لها دون جدال.
لغة الحوار كانت مفعمة بالرؤى الفلسفية والتاريخية، وأجمل ما زينها ألفاظ الجرأة الجسدية التي لم تكن عبثًا، وإنما جاءت لبنات براقة في أدق مواضعها ازدان بها العمل وتلألأ.
أما من الناحية الإخراجية فرغم ضعف النفقة الإنتاجية، إلا أن مخرج العمل/ محمد طايع أجاد ببراعة تصميم استعراض راقص له جمال مع مناسبة فنية، واختار ديكورات بسيطة واءمت خط العمل المسرحي، كما جاءت الملابس اختيارًا موفقًا وتحديدًا ملابس بطلات “شكسبير” والتي جمعت بين الاحترام وإظهار جماليات الفتنة الأنثوية، وتخللت كلاسيكية العمل جمل معاصرة مرحة قربت العمل من روح الجمهور، وإن أتت لهجة بعض البطلات خلال مشاجرتهن مع “شكسبير” قريبة من مشاجرة امرأة شعبية في حارة، ولعل هذا لخلق المرح، ولكن ومع كل هذه الوجبة الفنية الدسمة يأتي قليل من الملح ليعكر المزاج؛ وهو سوء تعامل الممثلين مع اللغة العربية الفصحى، وكان أولى بهم أن يتمرنوا أكثر ويتعلموا العربية حتى الإتقان.
أما إيقاعات الحركة والاقتراب والتباعد بين البطلات و”شكسبير” أو البطل الأصلي في العمل فجاءت معبرة، ولا ينكر للمخرج ذكاؤه في تجسيد مسرحيات “شكسبير” في دقائق قصيرة جامعًا الفكرة؛ حتى يفهم الجمهور ما سر الاتهام الذي سيقدم الآن.
ختامًا كان عرض “نساء شكسبير” المشارك في مهرجان المسرح التجريبي على مسرح الطليعة أنموذجًا محترمًا لكيف يصير النقد الموجه للأديب مسرحًا، وإن عين الناقد البصيرة حين تتبع حركة هذا العمل وفكرته وأداءه تقع فيها صورة لسعادة فكرية مصدرها قيمة العمل، كما علمنا أساتذة المذهب التأثري في النقد الأدبي؛ وكما ذكر د/ محمد مندور أن الناقد يبحث عن القيم الجمالية قبل كل شيء. وهذا يوجب التحية لهذا العرض المسرحي الشيق إبداعًا وفلسفة وحوارًا وإخراجًا برز فيه التناول الرائع.