“بنات الحاج” رواية للكاتبة هالة فهمي ” قالت ما عجزنا عن البوح به ”
رؤية نقدية بقلم : أشرف محمود عكاشة
دوما يبقى الحرف نافذة للبوح وباباً للحلم والوصل..
والكتابة حين تولد من رحم المعاناة والقهر تصبح راية للتمرد على الواقع المقيت هكذا أعلنتها المبدعة هالة فهمي على لسان بطلتها ملك:
” – أحلام عاد فؤاد .. وأنهيت روايتي .. وقرأها جدي .. أنظري إليه يبتسم لقد قالت الرواية ما عجزنا عن البوح به .”
يحاول فيها المبدع تحقيق ذاته في أجواء لا يستطيعها في الواقع المعاش، فإذا به يرسم بيئة يمارس فيها المبدع تمرده ، وتذمره من الواقع، واحتجاجه على الكثير من الأوضاع القاهرة والسائدة في المجتمع، فهو يسعى إلى تحقيق رغباته في بيئة لا تنطبق عليها مظاهر أو شروط الواقع المعاش، ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أنها بيئة صالحة للعمل الإبداعي، إذا توفرت لدى المبدع إمكانيات وأدوات تمكنه من أداء مهمته الإبداعية بالشكل والمضمون المناسبين”
بل إن الكتابة كفعل إنساني حتى إذا لم تصل إلى المستوى الإبداعي تبقى دوما البلسم الذي نحاول أن نبرأ به من كل علل الروح كما فعلت أحلام بمذكراتها
” لم تكن مذكرات أحلام مرتبة ..تكتب كل ما تتعثر به روحها تخبئ الهموم بين سطور عقيمة لن تُفشي يوما ،لم تكن تدرى أنني سأنقب خلف هذه السطور لأعرف المزيد ولكن هذه الصفحات المطوية جعلتني أفض ما بها ورغم أنه لم يكن غريبا بل متوقعا إلاأنه صدمني ..”
” فتحت مخزن أسرار عمتى ومددت عينى بين السطور لأروى عقلى .. فتهدأ روحى التى لم تعد تعرف مذاق الراحة منذ بدأت حلقات المعرفة وتكشف الأسرار.”
تأتي رواية ( بنات الحاج ) على مستوى المضمون كصرخة تمرد على مستويات عدة تمرد على القهر المجتمعي الذي يمارس ضد المرأة وتمرد ضد الطبقية وسطوة المال ومحاولة صادقة للانتصار للحب والمشاعر النبيلة ومحاولة صادقة لكشف سواءات عدة فشلت كل محاولات موراتها عن العيون
” لكننا نسختان متطابقتان كلانا لا تخضع للتهديد .. عنيدة محاربة .. و رثت كل شيء عن عمتي الكبرى .. المسألة لم تكن شكلاً فقط قررت أن أكمل الرواية و ليكن ما يكون من جدي فليس من حقه خنق شعاع الشمس ولا وأد القمر إذا أراد .. لقد فتح باب السر و كشف غطاء المقبرة..فعلي الجميع أن يتصارح و ألا ينام سر في قلب صاحبه بعد الآن .”
” ربما لا ندرك بشاعة الأشياء السلبية ونحن أطفال أو ربما لا نراها إلا بعد أن تتكاثر وتشكل ظاهرة . أو ربما عندما يزيد القهر فتقع الأقنعة وتبدو الحقائق جلية واضحة .. ربما .. فلولا هذه المذكرات لظلت قرية المجد هى تلك القرية التى أركض داخل إطارها الأخضر .. أطارد فراشتها .. أحلق مع يماماتها “
في براعة ووعي شديدين نجد الكاتبة تحكم بناء الرواية على تعدد الأصوات الساردة داخل النص على الرغم من ظاهرها الذي يوهم المتلقى بالسرد السير ذاتي لغلبة ضمير المتكلم على السرد داخل الرواية فهي تمزج بين الرواية المونولوجية والرواية متعددة الأصوات ، فتحرص على تنويع الخطاب باستعمال أساليب لغوية وبلاغية مختلفة تتراوح بين الحوار الداخلي(المناجاة) والوصف والحوار الخالص والرسالة والسرد بكل أنواعه، واستعمال اللهجات المحلية وسجلات مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، تركز على صراع الشخصيات وتناقض مواقفها ولغاته الخاصة التي تجعلها تنتمي لجماعة لغوية معينة تتجلى لنا بكل وضوح في الخطاب الروائي،
فالشّخصية المتكلّمة، في الرواية، تمتحن مصداقيّة إيديولوجيتها بالحديث والجدال والمقارنة بين وعيها وأنماط الوعي الأخرى، ويتواصل الكاتب، من جهته، مع هذه الشّخصيات جميعها؛ فيُدافع عن إيديولوجيّته ويدأب على دحض مزاعم الكائنات الورقية الّتي أنشأها؛ إنّه يستخدم لغات الشّخصيات ورؤاها للعالم ليختبر صحّة رؤيته وقدرتها على الحِجاج والتّأثير.
فهي لم تعد شخصيات هامشية أو ثانوية أو ظرفيّة تدور في فلك شخصية بطلة؛ فتبارك سعيها أو تثبّط عزيمتها أو تنتظر الخلاص على يدها، إنّما أصبحت فاعلة بكلامها ومؤثّرة ببلاغتها ومقنعة بدمْغ حجّتها.
وليس أدل على ذلك من سرد حكاية تفاحة تلك الغانية التي تمارس البغاء علانية لتختمها الكاتبة على لسان ملك بهذه الحجة التي تحاول أن تعري كل ما تواريه جدران بيوت القرية من مساوئ ” صاحت أمي بوجهي ذات يوم عندما قلت لبعض النسوة وهن يزدردن سيرة الأخريات :والله لو طردتم تفاحة من البلد عليكم بطرد ربع نساء البلد منها .. قريتنا بها سلة تفاح وليس تفاحة واحدة.”
والسرد بضمير المتكلّم يوهم بتطابق أو بتماهي صوت الراوي في النّص مع صوت المؤلف الحقيقي في الواقع, كما يوهم بواقعية التجربة وحقيقية الشخصيّات, ومن هنا يأتي الربط الظالم بين شخصيّة المؤلف وشخصيّة بطله! مع أن السرد بضمير الغائب أو المخاطب قد يكون أحيانا اختيارا فنيّا حتى في مجال رواية السيرة.
” اسأل نفسي أيهما أجمل أن أعيش جزءا من منظر طبيعي خلاب .. أو أن أرقب هذا المنظر واستمتع به .. لكل منهما متعته الخاصة .. عندما أكون جزءا من المشهد، مذاق يختلف عما أكون مراقبة له من بعيد وهذا ما يحدث كثيرا في تفاصيل حياتي.. خاصة بعد أن قررت ضم مذكرات أحلام لما بدأت كتابة في رواية تحمل اسم (بنات الحاج) فعندما أعود للطفولة البريئة أكون جزءا من المشهد.. أعشق ساعاته وأتمنى ألا تمضي .. وحالة كوني شاهدة أحكي لكم .. أتحكم في الحكاية .. متى ابدأ ومتى أتوقف وها أنا ذي أعود إلى حكاية عمتي أحلام تلك التي انهارت وسقطت فاقدة الرغبة في الحياة والخروج عن جلدها الذي ضاق عليها حتى كاد يخنقها .”
هو مزج، داخل ملفوظ واحد، بين أسلوبيْن ورؤيتيْن للعالم يضطلع به الكاتب عمداً أثناء إنجازه للتّلفظ؛ إذ يريد به إقامة تواصل لغويّ وإيديولوجيّ بين الشّخصيات والراوي من أجل تقديم أحكام قيمة بشأن إيديولوجية الشخصيات الّتي تشي بها بضع مفردات أو عبارات.
ولعل تواجد مثل هذا النمط السردي في هذا العمل الفني، يجعل “الأنا” مجسداً لما يطلق عليه “الرؤية بالمصاحبة” في عرض الأحداث ونقلها للمتلقي، وذلك بحكم وجود السارد كشخصية في النص؛ أي أن كل معلومة سردية، أو كل سر من أسرار الشريط السردي، يغتدي متصاحباً مع “أنا” السارد.
وعبر هذه القراءة النقدية الموجزة لهذه الرواية نستطيع أن نرصد ما يلي
• هناك ثلاث مستويات من السرد بضمير المتكلم على لسان ملك
وعلى لسان أحلام في مذكراتها وأخيرا مستوى ميتا سردي على لسان ملك عندما تتملكها روح الكاتبة وهي تتحدث عن الرواية وفعل الكتابة نفسه وعن الإبداع.
• تبعاً لهذه المستويات من السرد تمارس الكاتبة ببراعة لعبة الانتقال بين الأزمنة داخل الرواية في مراوحة عمدت فيها الكاتبة إلى تشويق المتلقى وإثارته وهي تمرر إليه أجزاء الحكايات التي تتجمع خيوطها لتكشف عن رؤية الكاتبة وموقفها من مضامين الرواية
• البيئة المكانية كانت مطية الكاتبة في ربط الحكايات ببعضها البعض خاصة دوار الحاج شاهين ومقام الشيخ عبد الله والنهر ، وتبقى القرية في الماضي والحاضر بيئة تكشف معاناة الشخوص وما حل بأرواحهم من تشوهات بالتماهي مع ما أصاب القرية من قبح “هذا مشهد من فصول كثيرة واجهتني بكل قبحها .. تخرج لي لسانها قائلة :هاهى ذى قريتك طالها فرشاة “المكياج” المنفر لمسخ ملامحها الحبيبة ..” .
• نلمح أيضا على إمتداد الرواية أصداء المورث الشعبي سواء المرتبط بالحزن مثل العديد أو بالمعتقدات مثل الحكايات المرتبطة بمقام الشيخ عبد الله وكذلك على مستوى العادات مثل العلاج بلومية الجميزة والتلميح من خلال هذ المشهد إلى قضية الختان.
• بينما نجد الكاتبة تتذمر على لسان بطلتها ملك من أسلوب التقطير في الحكي الذي كانت تمارسه معها أحلام وجدناها تعمد في روايتها إلى ذات الاسلوب بتفكيك الحبكة داخل نصها الروائي وتعمد أيضاً إلى توالد الحكايات المروية داخل النص
• اللغة عمدت فيها الكاتبة إلى لغة الحوار في معظم فصول الرواية وحاولت تقديم لغة واقعية بسيطة تظهر جمالياتها في الاستهلال الوصفي في مطلع كل فصل وتزينت بالموروث الذي نثرته الكاتبة عبر فصول القصة .
• بقى لنا أن نطرح سؤالاً يتعلق بالمضمون داخل النص الروائي لماذا ظل ضمير الغائب في السرد فقط من نصيب كل رجال الرواية .
خالص تقديرنا للمبدعة وروايتها التي تستحق دراسة متعمقة أكثر من هذه القراءة النقدية الموجزة